فصل: تفسير سورة التوبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


تفسير سورة التوبة

اعلم أولًا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ في سورة ‏"‏براءة‏"‏ هذه في المصاحف العثمانية، واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال‏:‏

منها‏:‏ أن البسملة رحمة وأمان و‏"‏براءة‏"‏ نزلت بالسيف‏.‏ فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله عنه، وسفيان بن عيينة‏.‏

ومنها‏:‏ أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتابًا فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النَّبي صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم‏.‏ قرأها، ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم، ولا يخفى ضعفه‏.‏

ومنها‏:‏ أن الصحابة لما اختلفوا‏:‏ هل ‏"‏براءة‏"‏ و‏"‏الأنفال‏"‏ سورة واحدة أو سورتان‏.‏ تركوا بينهما فرجة لقول من قال‏:‏ إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال‏:‏ هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف‏.‏

ومنها‏:‏ أن سورة ‏"‏براءة‏"‏ نسخ أولها فسقطت معه البسملة، وهذا القول رواه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم، عن مالك، كما نقله القرطبي‏.‏

وعن ابن عجلان، وسعيد بن جبير، أنها كانت تعدل سورة ‏"‏البقرة‏"‏‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة‏.‏ لأن جبريل لم ينزل بها فيها‏.‏ قاله القشيري‏.‏ اهـ‏.‏

قال مقيده ـ‏:‏ عفا الله عنه ـ أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة‏.‏ أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة‏.‏ هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لابن عباس‏.‏

فقد أخرج النسائي، والترمذي، وأبو داود، والإمام أحمد، وابن حبان، في ‏(‏صحيحه‏)‏ والحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ وقال‏:‏ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏:‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قلت لعثمان‏:‏ ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ـ وهي من المثاني ـ وإلى براءة ـ وهي من المائين ـ فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ووضعتموهما في السبع الطول فما حملكم على ذلك‏؟‏

فقال عثمان رضي الله عنه‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول‏:‏ ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول‏:‏ ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت ‏"‏الأنفال‏"‏ من أوائل ما أنزل بالمدينة، و‏"‏براءة‏"‏ من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتهما شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏، ووضعتها في السبع الطول‏.‏ اهـ‏.‏

تنبيهان

الأول‏:‏ يؤخذ من هذا الحديث أن ترتيب آيات القرآن بتوقيف من النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو كذلك بلا شك، كما يفهم منه أيضًا‏:‏ أن ترتيب سورة بتوقيف أيضًا فيما عدى سورة ‏"‏براءة‏"‏، وهو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة‏.‏

التنبيه الثاني‏:‏ قال أبو بكر بن العربي المالكي ـ رحمه الله تعالى ـ‏:‏ في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين‏:‏ ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة ‏"‏براءة‏"‏ شبيهة بقصة ‏"‏الأنفال‏"‏ فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام‏.‏

‏{‏بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ إلى قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ لا عهد لكافر‏.‏

وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء‏.‏ والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر، فتكمل له أربعة أشهر‏.‏ أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم، ودليله المبين له من القرآن‏.‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ وهو اختيار ابن جرير، وروي عن الكلبي، ومحمد بن كعب القرظي، وغير واحد، قاله ابن كثير ويؤيده حديث علي رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بعثه حين أنزلت ‏"‏براءة‏"‏ بأربع‏:‏ ألا يطوف بالبيت عريان‏.‏ ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا‏.‏ ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته‏.‏

ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ كان ابتداء التأجيل بالأشهر الأربعة المذكورة من شوال‏.‏ وآخره سلخ المحرم، وبه قال الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ ولكن القرآن، يدل على أن ابتداءها من يوم النحر على الأصح من أنه يوم الحج الأكبر، أو يوم عرفة على القول بأنه هو يوم الحج الأكبر، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏‏.‏ وهو صريح في أن ابتداء الإعلام المذكور من يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، ولا يخفى انتهاؤها في العشر من ربيع الثاني‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ـ في تفسير هذه الآية ـ وقال الزهري‏:‏ كان ابتداء التأجيل من شوال، وآخره سلخ المحرم، وهذا القول غريب، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

يفهم من مفهوم مخالفة هذه الآية‏:‏ أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم، ونظير ذلك أيضًا، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ‏}‏ وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّكَثُوااْ أَيْمَـانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَـاتِلُوااْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَـانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ‏}‏ ***‏.‏

‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏

{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏‏.‏

اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية‏.‏

فقال ابن جرير‏:‏ إنها المذكورة في قوله تعالى‏.‏ ‏{‏مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ‏}‏ قاله أبو جعفر الباقر‏.‏

ولكن قال ابن جرير‏:‏ آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وحكى نحو قوله هذا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وإليه ذهب الضحاك‏.‏

ولكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ في تفسير هذه الآية‏:‏ والذي يظهر من حيث السياق، ما ذهب إليه ابن عباس، في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أن المراد بها، الأشهر الأربعة المنصوص عليها بقوله‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ أي‏:‏ إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، مع أن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى ـ اهـ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن كفار مكة هموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل، كقوله ‏{‏يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، وذكر في مواضع أخر‏:‏ محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا قرباء، وصرح في موضع آخر‏:‏ بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا قرباء، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى ما أصاب المسلمين يوم حنين في هذه الآية الكريمة، وذكر ما أصابهم يوم أحد بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، وصرح بأنه تاب على من تولى يوم أحد بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏، وأشار هنا إلى توبته على من تولى يوم حنين بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ كما أشار بعض العلماء إليه‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏

{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى ‏{‏يكنزون‏}‏ في هذه الآية الكريمة، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله، أنهم لا يؤدون زكاتهما‏.‏

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية‏:‏ وأمَّا الكنز‏؟‏ فقال مالك‏:‏ عن عبد الله بن دينار‏.‏ عن ابن عمر‏.‏ هو المال الذي لا تؤدى زكاته‏.‏

وروى الثوري، وغيره، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان نحت سبع أرضين، وما كان ظاهرًا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، موقوفًا ومرفوعًا‏.‏

وقال عمر بن الخطاب نحوه‏:‏ أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض اهـ‏.‏

وممن روى عنه هذا القول عكرمة، والسدي، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال، لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه، لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها‏.‏

ومن أصرح الأدلة في ذلك، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد، من هوازن، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بأن الله فرض عليه الزكاة، وقال‏:‏ هل على غيرها، فإن النَّبي قال له‏:‏ لا، إلا أن تطوع‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وقد قدمنا في ‏"‏البقرة‏"‏ تحقيق أنه ما زاد على الحاجة التي لا بد منها، وقوله‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق‏"‏ الحديث، لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة‏.‏

وفي الآية أقوال أخر‏:‏

منها‏:‏ أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏‏.‏

وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضًا‏.‏ وبه قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك‏.‏ اهـ‏.‏

وعن علي أنه قال‏:‏ أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئًا فاضلًا عن نفقة عياله‏.‏ اهـ ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به، وهو كالضروري عند عامة المسلمين‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الجواب عما رواه الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه، قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيتان صلوا على صاحبكم‏"‏ اهـ‏.‏ وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة‏.‏ صدى بن عجلان قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كية‏"‏ ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيتان‏"‏‏:‏ وما روى عبد الرزاق وغيره عن علي رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تبًا للذهب تبًا للفضة يقولها ثلاثًا فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ فأي مال نتخذ‏؟‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا‏:‏ فأي المال نتخذ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم على دينه‏"‏‏.‏ ونحو ذلك من الأحاديث‏.‏

فالجواب ـ والله تعالى أعلم ـ أن هذا التغليظ كان أولًا ثم نسخ بفرض الزكاة كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏

وقال ابن حجر في ‏(‏فتح الباري‏)‏‏:‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش‏.‏ فهو كنز يذم فاعله‏.‏ وأن آية الوعيد نزلت في ذلك‏.‏

وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة، إلى أن قال‏:‏ فكان ذلك واجبًا في أول الأمر، ثم نسخ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال‏:‏ كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول‏.‏ اهـ‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ هي في خصوص أهل الكتاب، بدليل افترانها مع قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏.‏

فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة، وأنها في من لا يؤدي الزكاة، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة‏.‏ وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به، وآيات الزكاة كقوله‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَآتَوُا الزَّكَاةَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ‏}‏ لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة، وقد قال ابن خويز منداد المالكي، تضمنت هذه الآية‏:‏ زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط، حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين‏.‏ اهـ وفي بعض هذه الشروط خلاف‏.‏ * * *

مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة

المسألة الأولى‏:‏ في قدر نصاب الذهب والفضة، وفي القدر الواجب إخراجه منهما‏.‏

أما نصاب الفضة، فقد أجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل، والأوقية أربعون درهمًا شرعيًا‏.‏

وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي، الذي خرق به الإجماع‏.‏ وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية، زاعمًا أنه وجه في المذهب، من أن الدرهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلًا لبلغ نصابًا أن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم، ولا بما ذكره ابن عبد البر‏.‏ من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، لأن النصوص الصحيحة الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفًا في مكة‏.‏ اهـ‏.‏

وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمس أواق صدقة‏"‏ ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه‏.‏ وقد أجمع جميع المسلمين، وجمهور أهل اللسان العربي، على أن الأوقية أربعون درهمًا، وما ذكره أبو عبيد وغيره، من أن الدرهم كان مجهولًا قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل لا يخفى سقوطه وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولًا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، حتى يحققه عبد الملك‏.‏ والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك‏:‏ أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد‏:‏ فعشرة مثلًا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزنًا واحدًا‏.‏

وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام، وقال بعض العلماء‏:‏ يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة‏.‏

وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل، لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة‏.‏

فإذا حققت النص والإجماع‏:‏ على أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي، وهي وزن مائة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏وفي الرقة ربع العشر‏"‏ والرقة‏:‏ الفضة‏.‏

قال البخاري في صحيحه في باب ‏"‏زكاة الغنم‏"‏‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال‏:‏ حدثني أبي، قال‏:‏ حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس‏.‏ أن أنسًا حدثه، أن أبا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين ‏"‏بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله‏"‏ الحديث‏:‏ وفيه‏.‏ وفي الرقة‏:‏ ربع العشر، وهو نص صريح صحيح أجمع عليه جميع المسلمين‏.‏

فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر‏.‏

وجمهور العلماء‏:‏ على أنها لا وقص فيها خلافًا لأبي حنيفة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصري، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري ، القائلين‏:‏ بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم‏.‏

وأما الذهب‏:‏ فجماهير علماء المسلمين، على أن نصابه عشرون دينارًا والدينار‏:‏ هو المثقال، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين، كما روي عن الحسن في أحد قوليه‏:‏ أن نصاب الذهب أربعون دينارًا، وكقول طاوس، أن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة‏.‏ وجماهير علماء المسلمين أيضًا، على أن الواجب فيه ربع العشر‏.‏

والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة، أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، والواجب فيه ربع العشر، ما أخرجه أبو داود، في سننه، حدثنا سليمان بن داود المَهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، وسمى آخر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون دينارًا فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فَبِحِسَاب ذلك‏"‏ قال‏:‏ فلا أدري أَعَلِيٌ يقول فَبِحِسَاب ذلك، أو رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريرًا قال‏:‏ ابن وهب، يزيد في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول‏"‏ اهـ‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، لأنهما ضعيفان، وبأن الدارقطني، قال‏:‏ الصواب وقفه على علي، وبأن ابن المواق قال‏:‏ إن فيه علة خفية وهي، أن جرير بن حازم، لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب، سحنون، وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره، قال ابن المواق‏:‏ الحمل فيه على سليمان، شيخ أبي داود، فإنه وهم في إسقاط رجل ـ اهـ‏.‏

وبأن الشافعي رحمه الله قال‏:‏ فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة،

وأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة، إما بخبر عنه لم يبلغنا، وإما قياسًا، اهـ‏:‏ وهو صريح عن الشافعي‏:‏ بأنه يرى، أن الذهب لم يثبت فيه شيء في علمه، وبأن ابن عبد البر، قال‏:‏ لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات‏.‏

لكن روى الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم، والحارث، عن علي، فذكره، وكذا رواه أبو حنيفة‏:‏ ولو صح عنه لم يكن فيه حجة لأن الحسن بن عمارة متروك‏.‏

وبأن ابن الحزم قال‏:‏ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب، ولا في القدر الواجب فيه شيء‏.‏

وذكر‏:‏ أن الحديث المذكور، من رواية الحارث الأعور مرفوع، والحارث، ضعيف لا يحتج به، وكذبه غير واحد، قال‏:‏ وأما رواية عاصم بن ضمرة‏.‏ فهي موقوفة على علي رضي الله عنه، قال‏:‏ وكذلك رواه شعبة، وسفيان، ومعمر عن أبي إسحاق، عن عاصم، موقوفًا‏:‏ وكذا كل ثقة رواه عن عاصم‏.‏

فالجواب من أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أن بعض العلماء قال‏:‏ إن هذا الحديث ثابت، قال الترمذي‏:‏ وقد روى طرفًا من هذا الحديث وروى هذا الحديث الأعمش، وأبو عوانة، وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان الثوري، وابن عيينة، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن علي، وسألت محمدًا ـ يعني البخاري ـ عن هذا الحديث فقال‏:‏ كلاهما عندي صحيح، اهـ‏.‏

فترى الترمذي، نقل عن البخاري، تصحيح هذا الحديث، وقال النووي في ‏(‏شرح المهذب‏)‏ وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه، فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، أو صحيح، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، اهـ‏.‏

وقال الشوكاني في ‏(‏نيل الأوطار‏)‏ وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، وقد تقدم أن البخاري قال‏:‏ كلاهما عنده صحيح، وقد حسنه الحافظ، اهـ محل الغرض من كلام الشوكاني‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه يعتضد بما رواه الدارقطني، من حديث محمد بن عبد الله بن جحش، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أمر معاذًا، حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين دينارًا دينارًا‏.‏ الحديث ذكره ابن حجر، في ‏(‏التلخيص‏)‏ وسكت عليه‏.‏ وبما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ولا في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب شيء‏"‏ قال النووي‏:‏ غريب، اهـ‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ المناقشة بحسب صناعة علم الحديث والأصول، فنقول‏:‏

سلمنا أن الحارث الأعور ضعيف كما تقدم في المائدة، وإن وثقه ابن معين، فيبقى عاصم بن ضمرة، الذي روى معه الحديث، فإن حديثه حجة وقد وثقه ابن المديني‏.‏

وقال‏:‏ النسائي‏:‏ ليس به بأس‏.‏

وقال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي‏:‏ صدوق وتعتضد روايته برواية الحارث، وإن كان ضعيفًا‏.‏ وبما ذكرنا عن محمد بن عبد الله بن جحش، وعمرو بن شعيب‏.‏

فبهذا تعلم أن تضعيف الحديث بضعف سنده مردود‏.‏

وقد قدمنا عن الترمذي، أن البخاري قال‏:‏ كلاهما صحيح‏.‏

وقد قدمنا أن النووي قال فيه‏:‏ حسن أو صحيح‏.‏

ونقل الشوكاني، عن ابن حجر‏:‏ أنه حَسَّنَهُ‏.‏

أما ما أعله به ابن المواق، من أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق‏.‏ لأن بينهما الحسن بن عمارة وهو متروك، فهو مردود‏.‏ لأن الحديث ثابت من طرق متعددة صحيحة إلى أبي إسحاق، وقد قدمنا أن الترمذي قال‏:‏ وذكر طرفًا منه، هذا الحديث، رواه الأعمش، وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ورواه سفيان، الثوري، وابن عينية، وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي‏.‏ اهـ‏.‏

فترى‏:‏ أن أبا عوانة، والأعمش، والسفيانين، وغيرهم، كلهم رووه عن أبي إسحاق‏.‏

وبه تعلم بأن إعلال ابن المواق له بأن روايه عن أبي إسحاق الحسن بن عمارة ـ وهو متروك ـ إعلال ساقط‏.‏ لصحة الحديث إلى أبي إسحاق، فإذا حققت رد تضعيفه بأن عاصمًا صدوق، ورد إعلال ابن المواق له، فاعلم أن إعلال ابن حزم له بأن المرفوع رواية الحارث، وهو ضعيف‏:‏ وأن رواية عاصم بن ضمرة، موقوفة على علي، مردود من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن قدر نصاب الزكاة، وقدر الواجب فيه، كلاهما أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه والاجتهاد، والموقوف إن كان كذلك فله حكم الرفع، كما علم في علم الحديث والأصول‏.‏

قال العلوي الشنقيطي في ‏(‏طلعة الأنوار‏)‏‏:‏ وما أتى عن صاحب مما منع فيه مجال الرأي عندهم رفع